نؤمن أن الفهم الصحيح للدين حق لكل باحث عن الهداية, و أن التعلم الشرعي لا يقتصر على المتخصصين, بل يشمل كل عقل راغب بالتفقه و كل قلب يبحث عن الله.

نعتمد في طرحنا على منهج علمي راسخ و أسلوب تربوي هادئ يراعي اختلاف أنماط المتعلميين, و يوازن بين بناء المعرفة و تزكية النفس, و التفاعل مع الواقع.

نشرح بالعربية و نوفر ترجمة باللغة الإنجليزية , مع الحفاظ على خصوصية اللغة الشرعية و دقتها.

من أنا

شيماء الكندري, متخصصة في الحديث الشريف و علومه,حاصلة على درجة الدكتوراة من جامعة أم القرى – مكة المكرمة\المملكة العربية السعودية-,شرفت بتدريس العلوم الشرعية لمدة 20 عاما, وقدمت ما يزيد عن 500 محاضرة في شرح المتون و تبسيط المفاهيم الشرعية بأسلوب يجمع بين العمق و الوضوح , و أصالة المنهج العلمي المستمد من القرآن و السنة الصحيحة.

مدرب معتمد, أستاذ منتدب في عدد من الجامعات , قدمت محاضرات شرعية بالتعاون مع مكتبة الحرم المكي , دربت أكثر من 200 متدربه على طرق التدريس الفعال و التدريس الاحترافي.

اخصائي معتمد في قياس و تشخيص صعوبات التعلم, دبلوم صعوبات التعلم من جامعة عجمان – الإمارات العربية المتحدة-

رسالتي :

أن أكون همزة وصل بين المتعلم و الوحي, و أن أقدم له العلم الشرعي بصورته الأصيله و منهجه المتوازن و روحه الرحيمه, بما يعينه على الفهم العميق و العمل الرشيد و الأثر الجاري.

أحمل رسالة تعليمية تؤمن بأن تبسيط العلم لا يعني تسطيحه, و أن القلوب تُفتح حين يطرق بابها بكلمة صادقة, و أن العقول تُحرر كلما اتزنت علمياً.

رؤيتي :

أن تكون مدارست العلم الشرعي تجربة وعي و هداية, لا تلقينا و لا تلقيا جامدا, و أن يستعيد المتعلم علاقته بالوحي على نحو يغذي العقل, و يهذب النفس, و يثمر أثراً في الواقع.

هدفي :

تمكين المتعلم من بناء فهم شرعي ناضج, يزاوج بين التأصيل الشرعي و الفهم الواعي للواقع, و يسهم في صناعة جيل واعٍ, يُحسن تمثًل القرآن و الهدي النبوي الصحيح في عالم مال ميزان خطواته.

تواصل مع جوهر

التصنيف: 1 من أصل 5.
لا توجد تعليقات للعرض.

من الشعائر إلى  التيه / تأمل في رواية عبدة بن عبدالرحيم عن شاب عابد مجاهد عشق امرأة فتنصر لأجلها

 د.شيماء الكندري

6/6/2025

 يروي عبدة بن عبدالرحيم ، قصة عن  شاب  حدثت  له هذه الواقعة، كما ذك ر ابن الجوزي في المنتظم والذهبي وغيره   

 من هو عبدة بن عبد الرحيم ؟

عَبْدة بن عبد الرحيم، أبو سعيد  المَرْوَزِ ي . عَنْ : ابن  عُيَيْنَة، وبقي ة، ووَكِيع، وطبقتهم. وَعَنْهُ: النسائي، وقال: ثقة، ومحمد  بن  زب ان المِصْريُّ، ومحمد بن  أحمد  بن عمارة ، وآخرون . توفي يوم عرفة بدمشق من سنة أربع وأربعين.

 و ما هي قصة الشاب ؟

قال الحاكم: حدثنا أبو الحسين بن أبي القاسم المذكر، قال: سمعت  عُمَر ْبْن أحمد ْبْن عل ي  الجوهري  ابن علك، قال: أخبرنا أبي قال: قال  عَبْدة ْبْن عَبْد الرحيم: خرجنا فيِ  سَرِية معنا شاب  مقرئ صائم قوام، فمررنا بحصن، فمال لينزل، فنظر إلى امْرَأةَ من الحصن فعشقها ، فقال لها: كيف السبيل إليك؟ قالت : هين؛ تنصر وأنا لك، ففعل، فأدخلوه، فلما قَفَلْنا من غزْونا

رأيناه ينظر من فوق الحصن، فقلنا: ما فعل قرآنك؟ ما فعلت صلاتك؟ قال: اعلموا أني  نسيتُ  القرآن  كله، ما أذكر منه إلا  قوله: {رُبَمَا يَوَدُّ  الذَِّي نَ كَفَرُوا لو كانوا مسلمين}الآية.

في قصة الشاب الذي خرج مجاهًدًا وهو قارئ صائم قائم، ثم ارت د  عن دينه لأجل  امرأة، تتجلى  أمامنا فُرقة دقيقة وخطيرة في آ ن معًا: الفرق  بين الممارسة  الدينية والسيولة الإيمانية، بين من يحمل القرآن على لسانه، ومن يسكنه القرآن في  روحه، بين من  يُصلي، ومن تفيض صلاته على قلبه فتهديه عند الفتنة.

 الفتنة هنا ليست فقط “امرأة ً”، بل كل ما يكشف عن عمق  ما لم يُشفَ داخل النفس، القصة تصفعنا بسؤال موجع:

 لماذا  لم  تحمه عبادته من السقوط؟

 لأن الصورة لا تصمد أمام الانكسار

إن الممارسة  الدينية هي التزام خارجي  بالسلوكيات – صورتك الخارجية – من : قراءة، صيام، قيام ، مظاهر حياتك،  وهي ضرورية، بل أساس الإيمان الظاهر.

 لكنها وحدها لا تضمن الصمود، لأنها لا تكشف عمق التفاعل الداخلي مع هذه الشعائر.

تمامًا كما يمشي المرء في  جدول  ماء  ضحل ، يوهم نفسه أنه غار ق  في النهر، فإذا  ما جاء تيار مفاجئ جرفه… لأنه لم  يكن يومًا في العمق.

الممارسة الدينية قد تخُفي هشاشة لم  تعُالجَ، وظمأ لم  يُروَ، وضعفًا نفسيًا لم يُتلمس، ولهذا ، من يمارس الدين دون أن   يغوص في السيولة الإيمانية، قد يكون أول المنهارين عند أول صدمة، أول خسارة ، أول عشق، أول وع  د زائف بالسعادة

 إن السيولة الإيمانية هي المعنى الذي يتخلل الكيان

، هي ليست  وصفًا صوفيًا فضفاضًا، بل حالة عقلية، نفسية، وجودية ، تجعل الإيمان ليس  فقط نصًا يُتلى، بل نهرًا يجري  في الشعو ر والتفكير، يُعيد تشكيل الإدراك، يُحيل كل فتنة إلى  سؤال وجودي، لا إلى رغبة عابرة.

حين تكون في حالة إيمانية سائلة، فإن الآية  تشُكلك، لا تحفظها فقط، تصير القيم مرآة ً لك، لا لافتات أمامك. وحينها، لا  يعني التدين “أن تصمد أمام الحرام” فقط، بل أن ترى في  الحرام  عبثاً لا يُغريك، لأنه لا  يملأ فراغك.

الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان استخدم مصطلح “السيولة” في وصف المجتمع المعاصر، حيث كل شيء سريع  الزوال، لا يثبتُ، لا يلتزم، ولا يستقر: علاقات سائلة ، قيم سائلة، هويات سائلة

 فباومان يرى أن السيولة التي صنعتها الحداثة الغربية أنتجت هشاشة، وقلقًا، وتيهًا، لأنها بلا جذور.

 أما السيولة الإيمانية التي نتحدث عنها ، فهي نقيض ذلك:

 ليست فوضى، بل جريا ن منظم متصل بالمطلق.

 ليست هشاشة، بل مرونة قوية نابضة باليقين.

 ليست عبثاً وجوديًا، بل عمقًا يجعل الإيمان حيًّا في كل موضع.

 فإذا كانت سيولة باومان تنُتج الضياع، فإن السيولة الإيمانية تنُتج الثبات دون تصلب، والارتباط دون جمود، والصدق دون خوف.

هذا الجمود الإيماني رغم اعتياد الشعائر هو ما نطلق عليه ضعف الإيمان، و قد نجبر أنفسنا و غيرنا على الاستغفار و الزيادة في الطاعات و الإلحاح في الدعاء لكن رغم صدق توجهنا الظاهري لا نصل إلى المرفأ بل نتيه داخليا أكثر فأكثر، نتعب ونتوقف، و نتناسى أن النفس البشرية أكثر تعقيدات مما نظن، و أن السيولة الإيمانية تحتاج قابليه نفسية و نية  متوجهه للغاية لندرك فاعليتها في حياتنا .

لذلك ارتأيت أن أتأمل تصرف الشاب – كما  ورد في  القصة –  نفسيًا من زوايا متعددة ، لتظهر أمامي  تعقيدات النفس البشرية حين لا  يُصاحب التدين وعي  عميق  بالاحتياج الداخلي والتكوين النفسي، وكانت هذه النقاط أبرز المحاور لتفسير  سلوكه:

  1. الاندفاع العاطفي: حاجة لم ترُو

 الشاب كان في ظاهر حاله ملتزمًا: صائم، قارئ، مجاهد. لكن رؤيته للمرأة ووقوعه في حب ها بهذه السرعة يشير إلى عطش عاطفي داخلي، وربما وحدة شعورية، لم تشُبع لا  بالعلاقات ولا بالإيمان الذي كان يعيش فيه.

 فحين لم يجد  في تدينه تلبية لهذه الحاجة الإنسانية، انجذب تلقائيًا لأول  من أوهمه بالإشباع، حتى لو كان الثمن  دينه.

 هذا يكشف عن نمط شائع: حين لا  يُعاش الدين بوصفه علاقة حب  وامتلاء وجداني، قد تبحث  النفس عن “دين  آخر ” يُشبع فراغه، ولو كان شهوة ً  أو تعلقًا بشخص.

  • الخضوع للصدمة الجمالية: أثر الجاذبية

وهي استجابة فورية،  ،Aesthetic Shock)ما حدث قد يُصنَّف نفسيًا أيضًا تحت ما يُعرف بـ “الصدمة الجمالية”،  قوية، قد ترُبك الإدراك وتعُطل قدرة الإنسان على التفكير المنطقي، عندما يُواجه بجمال مُفاجئ يتقاطع مع حاجة نفسية  سابقة.

وإن لم تكن هناك بنية إيمانية داخلية متينة أو “سيولة إيمانية”، فإن هذا الجمال يتحول من  فتنة عابرة إلى منعطف  وجودي، كما حدث  للشاب .

  • الانفصال بين التدين  والذات الحقيقية

الشاب لم يقاوم. لم يمر بصراع  طويل. وافق مباشرة على أن “يتنصر”، كأن  القرار لم  يكن يحتاج منه سوى إذ ن  خارجي  لكس ر الحواجز.

وهذا يشير إلى احتمال  وجود فجوة نفسية بين صورة التدين التي يحملها، وبين ذاته الحقيقية التي لم تبُنَ  بعد على الصدق  واليقين، بل على التكرار والمظهر.

 النتيجة: تدين سطحي  لم يكن مرتبطًا بالهوية العميقة، بل بلباس خارجي يسقط عند  أول مطر.

  • الانجذاب  نحو الانتماء المشروط: وهم القبول

 المرأة وعدته بالانتماء والقبول مقابل “التنصر”، هذه صفقة  نفسية مغرية لمن يعاني من شعور دفين بعدم  الانتماء أو العزلة.

فهو لم يُغوَ  بجسد فقط، بل  بوعد ضمني: ستصير لي، وستكون لي هوية جديدة، إذا تخليت عن هويتك القديمة ، إنها رغبة خفية في الذوبان داخل  “آخر” يُشعره بالقيمة… ولو على حساب  ذاته الحقيقية.

  • غياب المرونة النفسية في مواجهة الفتنة

 الذين يتم سكون بالتدين الشكلي غالبًا ما  تكون ردود  أفعالهم أمام الفتنة حادة: إما صمود خارق ، أو انهيار كامل.

لكن من يعيش إيمانًا مرنًا حيًًّّا، مليئاً بالفهم والعمق والمجاهدة، يكون أقد ر على  استيعاب الضعف، وتحويل الصراع إلى   بناء داخلي لا إلى  سقوط.

 الشاب لم يكن  مرنًا، بل  انهار دفعة واحدة، مما يرجح أنه كان  يعيش في قشرة التدين، لا في جوهره.

إن تصرف الشاب في القصة لا يمثله وحده بل يجُسد لحظة انهيار الإنسان حين يخُتبر في موضع لم يبنه داخليًا،  يُظهر التدين، ويكبت الذات، تحضر الشعائر،  وتغيب المناعة.

 وهنا نفهم قوله المؤلم:

 “نسيت القرآن كل ه، ما أذكر منه إلا {رُبَمَا يَوَدُّ الذَِّينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} .”

إنه لا يذكر من الوحي إلا ما يحُاكي حاله: ند م داخلي، و وعي متأخر، وحنين خافت لما كان، فحتى بعد الانسلاخ، لم  تستطع روحه أن تنسى تمامًا.

 فما غاب عن الذاكرة، بل بقي كجُرح في الأعماق.

 لكن السؤال كيف نسي القرآن بعد أن كان حافظاً لكتاب الله؟

 ضعف الإيمان سبب رئيسي في رفع القرآن من الصدور، لكن  تذكره لآية واحده تصف حاله دليل على  حيات قلبه ، لذلك سأكمل تأملي لحالته من الناحية النفسية التي نتجاهلها في الغالب .

فمن وجهة نظر نفسية يمكن اعتبار نسيان الشاب للقرآن – مع استثناء آية واحدة مؤلمة – صورة من صور “أثر ما بعد الصدمة،  ولكن ليس بالمعنى الكلاسيكي المرتبط بالخوف أو الرعب، بل كأثر نفسي Post-Traumatic Effectالصدمة) ” داخلي ناتج عن الانهيار القيمي والوجودي، الذي أحدث شرخًا عميقًا بين “هويته السابقة” و”واقعه الجديد”.

حين يمر الإنسان بلحظة انكسار وجودي مفاجئ – كهجران القيم، أو السقوط في فعل يعارض أعمق ما كان يؤمن به –  فإن النفس قد تلجأ إلى آلية دفاعية عميقة وهي:

فصل الذات الجديدة عن الذاكرة السابقة، كطريقة لحماية التوازن النفسي، أو لتجنب التنافر الداخلي بين الماضي  والحاضر.

 في حالة الشاب نسيانه للقرآن كله قد يكون آلية نفسية لفصل نفسه الحالية ( كافر/مرتد) عن ذاكرته النقية (المؤمن الطائع).

 وكأن النفس تقول: “كي أتحمل ما أصبحت عليه، علي أن أنسى من كنت”.

 لكن اللافت هو أن آية واحدة بقيت {رُبَمَا يَوَدُّ الذَِّينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِين}، وهنا تظهر مفارقة الصدمة، فالمعنى الذي بقي ليس مريحًا، بل مؤلماً، وهذا شائع في الصدمات، الذاكرة قد تُسقِط التفاصيل، لكنها تبُقي على الجُرح ، و بين أثر ما بعد الصدمة وندبة الضمير،  لا ينسى الإنسان، لأنه لا  يُقدر ما فقد، بل ينسى لأنه لا يحتمل تذكُّره.

والذاكرة تحتفظ أحيانًا بعبارة واحدة فقط، لأنها تحمل كل الصراع المكبوت، فالآية التي بقيت في ذهن الشاب، كانت بمثابة صدى داخلي لما يعرفه قلبه رغم الإنكار، إن النفس المنكسرة داخليًا تخُدر نفسها بالنسيان الانتقائي، وتبقي فقط  على ما يُبقيها معلقة… بين ندم دفين، وذاكرة لا تموت.

 قصة هذا الشاب ليست  موعظة عن  الهوى، بل كشف لخلل  جوهري في طريقة فهمنا للدين.

 نحن لا نُبتلى فقط بما “يُغوينا”، بل نُبتلى أكثر بما لم “يُبنَ  فينا” جيًدًا.

 و يأتي السؤال الأهم:

  هل إيماننا مرن حي؟ أم  متجمد في الشعائر؟

 فالدين، إن لم  يكن سيولة روحية تنساب في  القلب والعقل، جف  عند أول منعطف…

 وما جف، تكسر!

لا توجد تعليقات للعرض.

التصنيف: 1 من أصل 5.

تدبر في حديث حرق البيوت

د.شيماء حسن الكندري

مايو2025

نص الحديث

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:

“والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطبٍ يُحتطب، ثم آمر بالصلاة فيُؤذَّن لها، ثم آمر رجلاً فيؤمّ الناس، ثم أُخالف إلى رجالٍ فأحرّق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدكم أنه يجد عَرْقاً سميناً أو مرماتين حسنتين، لشهد العشاء”

رواه البخاري (7224)

 شرح غريب الحديث

والذي نفسي بيده: قسمٌ من النبي ﷺ، يؤكّد على صدق ما سيقوله.

هممت: نويتُ نيةً قريبة من الفعل، لكن لم أُقدِم عليه.

حطب يُحتطب: أي أجمَع حطباً، إشارة إلى الاستعداد لحرق البيوت.

أُخالف إلى رجال: أذهب إلى من تخلف عن الجماعة من غير علمهم.

أحرّق عليهم بيوتهم: أي يُطبق عليهم باب البيت ويُحرق عليهم من شدة التقصير.

عَرْق سمين: قطعة من اللحم فيها دسم.

مرماتين حسنتين: عظمتان فيهما بقية لحم طيب.

 ” الدين ليس فرضاً فقط، بل قيمة كبرى”

هذا الحديث يثير سؤالاً كبيراً:

لماذا لا نُقبل على العبادة بنفس الشغف الذي نُقبل به على الطعام والمال؟

النبي ﷺ لم يُهدد بالتقريع فقط، بل كشف عن طبيعة الإنسان الفطرية:

نحن نتحرك وراء ما نراه نافعاً، وما نشعر بلذته، لا وراء ما نعلم أنه حق فقط.

فالفارق بين من يصلي جماعةً بانتظام، ومن يتخلف عنها، ليس “العلم”، بل “الوعي” و”الإدراك القيمي”.

فلو صارت العبادات تُعطى فيها هدايا مادّية، ستمتلئ المساجد.

لكن لو أن الصلاة بقيت كما هي: خشوع، سكينة، علاقة خاصة بالله، فإن الحضور سيقتصر على من ذاقوا هذه القيمة الروحية.

هنا يظهر البُعد الفلسفي في الحديث:

الدين امتحان للغيب… ولمن يبحث عن القيمة لا المنفعة.

فأنت تُصلّي لأنك تُدرك أن صلاتك صِلَة، نور، تربية، بناء داخلي، لا فقط أمر واجب.

 النفس البشرية وعلاقتها بالعبادة

في هذا الحديث كشفٌ نفسي عميق لطبيعة النفس البشرية:

1.النفس تميل للملموس المادي أكثر من المجرد الغيبي

العرق والمرماتان ملموستان، محسوستان. أما أجر صلاة العشاء؟

فهو في الصحف، وفي القلب، وفي الآخرة.

النفس لا تشتاق للغيبي إلا إذا ربّاها الإيمان.

2.التحفيز العقلي لا يكفي وحده

كثيرون “يعلمون” أن الجماعة أفضل من صلاة الفرد، وأنها نور، وأن الملائكة تشهد، لكنّهم لا يتحرّكون.

لماذا؟

لأن العلم لم يتحوّل إلى دافع داخلي، إلى شغف إيماني.

ومن هنا قال الله:

{إنما يعمُر مساجدَ الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله} [التوبة: 18]

3.التهديد التربوي أداة نفسية

النبي ﷺ لم يُحرق البيوت فعلاً، لكنه قال “هممت”، وفي ذلك أسلوب تربوي قوي:

يوقظ الضمير، يصدم النفس لتنتبه، ثم يُرغّبها بلحمٍ سمين!

أي مزيج هذا ؟!

إنه المزج النبوي بين “الترهيب” و”الترغيب”.

التأصيل الشرعي ودروس الحديث

  1. حُكم صلاة الجماعة للرجال

الحديث من أقوى ما يُستدل به على أن صلاة الجماعة ليست نافلةً سهلة الترك، بل أوجبها بعض العلماء، كأبي حنيفة وأحمد بن حنبل في ظاهر مذهبه.

واستدلوا بذلك الحديث الذي كاد فيه النبي ﷺ أن يُحرق بيوت المتخلفين.

  • النية والرحمة النبوية

النبي ﷺ لم يُقدِم على الحرق فعلاً، لأنه يعلم أن في البيوت نساءً وأطفالاً لا تجب عليهم الجماعة.

فامتنع عن تنفيذ الحكمّ، وهذا من رحمته وعدله.

  • الربط بين العبادة والمكافأة النفسية

الحديث يرشدنا أن نحفز أنفسنا بوعي جديد:

إن كنت تسعد بوجبة لذيذة، فصلاة الجماعة فيها

 ما هو أعظم:

سكينة نفسية

تكفير ذنوب

نور في الوجه والقلب

شهادة الملائكة

محبة الله

قال ﷺ: “بشّر المشّائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة” (رواه الترمذي).

في هذا الحديث العجيب، يجتمع الفقه، والفلسفة، والنفس، والتربية، والدعوة، وكلّها في كلماتٍ قليلة من فم نبيٍّ أوتي جوامع الكلم.

فلا تكن ممن لو قُدِّمت له قطعة لحم ذهب، ولو نودي للعباده تثاقل !

بل كن ممن إذا سمع نداء الله قال:

“لبيك اللهم لبيك”…

لأنك تعلم أن في العبادة بركةً… لا تُقارن بأي عَرقٍ سمين.

 الحوار في القرآن : ساحة المواجهة بين الحق والباطل

د.شيماء الكندري

ابريل 2025

يُعدّ الحوار أداةً أساسيةً في التفاعل الإنساني، حيث يُستخدم في تبادل الأفكار، وتوضيح الحقائق، وإقناع الطرف الآخر. وفي القرآن الكريم، يُوظَّف الحوار كوسيلة تعليمية وتربوية، حيث نجد العديد من الأمثلة التي تُبرز أسس الحوار الراقي، والعادل، والهادف. ومن أبرز هذه الحوارات ذلك الذي دار بين الله تعالى وإبليس كما ورد في سورة الإسراء (61-65)، والذي يُقدّم نموذجًا لفلسفة الحوار في القرآن، من حيث أسلوبه، وأهدافه، ودلالاته الفكرية والعقدية.

أولًا: الحوار كأداة تعليمية في القرآن

يُبرز القرآن الكريم أهمية الحوار كوسيلة لنقل المعرفة وتصحيح المفاهيم، حيث يظهر ذلك في المشهد الحواري بين الله وإبليس في الآيات (61-65). فعلى الرغم من تمرد إبليس، إلا أن الحوار مستمر، مما يدل على أن إتاحة الفرصة للرد وطرح الرأي جزءٌ أساسي من العدالة الإلهية.

1.عرض الفكرة المخالفة دون قمع

تبدأ القصة بأمر السجود لآدم، ورفض إبليس تنفيذ هذا الأمر:

“وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا” (الإسراء: 61)

نلاحظ هنا أن إبليس لم يُمنع من التعبير عن موقفه، رغم أنه خاطئ. فالله لم يقاطعه، بل ترك له المجال ليطرح منطقه، مما يعكس مبدأ حرية التعبير في الحوار القرآني، حتى مع المخالفين للحق.

2. ردود عقلانية تتناسب مع مستوى الطرف الآخر

إبليس استخدم أسلوب الاستفهام الإنكاري “أأسجد لمن خلقت طينًا؟”، وكأنه يرى نفسه أعلى مقامًا بسبب خلقه من نار. لكنه لم يكن يمتلك دليلًا منطقيًا حقيقيًا، بل كان يعتمد على القياس الفاسد.

“قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا” (الإسراء: 62

إبليس يطلب تأخير العقاب، مما يعكس إدراكه المسبق بالعدالة الإلهية، لكنه في الوقت ذاته يعلن تحديه للإنسان. ومع ذلك، فإن الله لا ينهي الحوار فورًا، بل يرد عليه بأسلوب منطقي وهادئ، ويبين عاقبة أفعاله.

ثانيًا: الحوار في القرآن قائم على العدل والحرية

الحوار في القرآن ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو وسيلة لتحقيق العدالة، وتوضيح العواقب، ومنح الحرية للاختيار.

1.إعطاء الفرصة للرد دون فرض القناعة بالقوة

في الآية (63)، لم يتم القضاء على إبليس فورًا، بل أُعطيه المجال لممارسة خياراته، مع تحمل العواقب:

“قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا” (الإسراء: 63

هذا يدل على أن القرآن يرسّخ مبدأ الحوار القائم على حرية الإرادة، بحيث لا يُجبر أحدٌ على الإيمان، بل يُترك له المجال للاختيار، مع بيان نتائج قراره بوضوح.

2.كشف أساليب التضليل في الحوار

إبليس لم يُظهر نواياه الحقيقية في البداية، لكنه لاحقًا يكشف عن استراتيجيته في إضلال البشر:

“وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا” (الإسراء: 64)

وهذا يوضح أن الحوار ليس فقط تبادلًا للأفكار، بل هو أيضًا وسيلة لكشف التضليل والتمييز بين الحق والباطل، وهي نقطة مهمة في الفلسفة القرآنية للحوار.

ثالثًا: الحوار في القرآن يُحقق الطمأنينة واليقين

رغم كل تهديدات إبليس وإعلانه حربه على البشر، يختم الله هذا الحوار بطمأنة عباده:

“إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا” (الإسراء: 65)

1.الحوار ينتهي بالحقائق وليس بالجدال العقيم

الحوار هنا لا يستمر إلى ما لا نهاية، بل ينتهي عندما تُوضَّح الحقيقة المطلقة: أن إبليس لا يستطيع فرض سلطته على عباد الله المخلصين.

2.الحوار القرآني يعزز اليقين لا الشك

القرآن لا يعرض الحوار ليترك القارئ في حالة من التيه الفكري، بل هو حوار يهدف إلى تعزيز الإيمان، وترسيخ العدالة، وتبيان مآل الأمور بوضوح.

الحوار في القرآن الكريم ليس مجرد نقاش لغوي، بل هو أداة فكرية وتربوية وتشريعية تُستخدم لتوضيح القضايا العقائدية والإنسانية. ومن خلال تحليل آيات سورة الإسراء (61-65)، نجد أن فلسفة الحوار في القرآن تقوم على إعطاء الفرصة للمخالفين، والرد بالمنطق والعدل، وكشف التضليل، وإنهاء النقاش بالحقيقة المطلقة.

إن هذا الحوار ليس مجرد درس نظري، بل هو تحدٍّ مفتوح يواجه فيه العقل الحقيقة دون مواربة، ويُختبر فيه الإيمان أمام ادعاءات الباطل. إنه ليس مجرد عرض فكري، بل هو ميدان صراع بين الحق والضلال.

فمن يفهم هذا الحوار، لن يكون مجرد متلقٍ، بل سيكون مستعدًا لخوض معركته الخاصة أمام كل وساوس الشك والضياع.، ويُختبر فيه الإيمان أمام ادعاءات الباطل. إنه ليس مجرد عرض فكري، بل هو ميدان صراع بين الحق والضلال، حيث لا يُنتصر بالكلمات وحدها، بل بوضوح الرؤية، وقوة الحجة، والقدرة على الصمود أمام الإغواء. فمن يفهم هذا الحوار، لن يكون مجرد متلقٍ، بل سيكون مستعدًا لخوض معركته الخاصة أمام كل وساوس الشك والضياع.

التصنيف: 1 من أصل 5.

محاضرات

سورة الفاتحة مقاصد و معاني

إلى الكهف

تدبر في سورة الكهف ( سلسلة محاضرات)

بينما نتنقل في نسيج الحياة المعقد، تتكشف الخيارات طرقًا نحو الاستثنائي، مما يتطلب الإبداع، والفضول، والشجاعة لرحلة مُرضية حقًا.

199 ريال

بينما نتنقل في نسيج الحياة المعقد، تتكشف الخيارات طرقًا نحو الاستثنائي، مما يتطلب الإبداع، والفضول، والشجاعة لرحلة مُرضية حقًا.