من الشعائر إلى التيه / تأمل في رواية عبدة بن عبدالرحيم عن شاب عابد مجاهد عشق امرأة فتنصر لأجلها
د.شيماء الكندري
6/6/2025
يروي عبدة بن عبدالرحيم ، قصة عن شاب حدثت له هذه الواقعة، كما ذك ر ابن الجوزي في المنتظم والذهبي وغيره
من هو عبدة بن عبد الرحيم ؟
عَبْدة بن عبد الرحيم، أبو سعيد المَرْوَزِ ي . عَنْ : ابن عُيَيْنَة، وبقي ة، ووَكِيع، وطبقتهم. وَعَنْهُ: النسائي، وقال: ثقة، ومحمد بن زب ان المِصْريُّ، ومحمد بن أحمد بن عمارة ، وآخرون . توفي يوم عرفة بدمشق من سنة أربع وأربعين.
و ما هي قصة الشاب ؟
قال الحاكم: حدثنا أبو الحسين بن أبي القاسم المذكر، قال: سمعت عُمَر ْبْن أحمد ْبْن عل ي الجوهري ابن علك، قال: أخبرنا أبي قال: قال عَبْدة ْبْن عَبْد الرحيم: خرجنا فيِ سَرِية معنا شاب مقرئ صائم قوام، فمررنا بحصن، فمال لينزل، فنظر إلى امْرَأةَ من الحصن فعشقها ، فقال لها: كيف السبيل إليك؟ قالت : هين؛ تنصر وأنا لك، ففعل، فأدخلوه، فلما قَفَلْنا من غزْونا
رأيناه ينظر من فوق الحصن، فقلنا: ما فعل قرآنك؟ ما فعلت صلاتك؟ قال: اعلموا أني نسيتُ القرآن كله، ما أذكر منه إلا قوله: {رُبَمَا يَوَدُّ الذَِّي نَ كَفَرُوا لو كانوا مسلمين}الآية.
في قصة الشاب الذي خرج مجاهًدًا وهو قارئ صائم قائم، ثم ارت د عن دينه لأجل امرأة، تتجلى أمامنا فُرقة دقيقة وخطيرة في آ ن معًا: الفرق بين الممارسة الدينية والسيولة الإيمانية، بين من يحمل القرآن على لسانه، ومن يسكنه القرآن في روحه، بين من يُصلي، ومن تفيض صلاته على قلبه فتهديه عند الفتنة.
الفتنة هنا ليست فقط “امرأة ً”، بل كل ما يكشف عن عمق ما لم يُشفَ داخل النفس، القصة تصفعنا بسؤال موجع:
لماذا لم تحمه عبادته من السقوط؟
لأن الصورة لا تصمد أمام الانكسار
إن الممارسة الدينية هي التزام خارجي بالسلوكيات – صورتك الخارجية – من : قراءة، صيام، قيام ، مظاهر حياتك، وهي ضرورية، بل أساس الإيمان الظاهر.
لكنها وحدها لا تضمن الصمود، لأنها لا تكشف عمق التفاعل الداخلي مع هذه الشعائر.
تمامًا كما يمشي المرء في جدول ماء ضحل ، يوهم نفسه أنه غار ق في النهر، فإذا ما جاء تيار مفاجئ جرفه… لأنه لم يكن يومًا في العمق.
الممارسة الدينية قد تخُفي هشاشة لم تعُالجَ، وظمأ لم يُروَ، وضعفًا نفسيًا لم يُتلمس، ولهذا ، من يمارس الدين دون أن يغوص في السيولة الإيمانية، قد يكون أول المنهارين عند أول صدمة، أول خسارة ، أول عشق، أول وع د زائف بالسعادة
إن السيولة الإيمانية هي المعنى الذي يتخلل الكيان
، هي ليست وصفًا صوفيًا فضفاضًا، بل حالة عقلية، نفسية، وجودية ، تجعل الإيمان ليس فقط نصًا يُتلى، بل نهرًا يجري في الشعو ر والتفكير، يُعيد تشكيل الإدراك، يُحيل كل فتنة إلى سؤال وجودي، لا إلى رغبة عابرة.
حين تكون في حالة إيمانية سائلة، فإن الآية تشُكلك، لا تحفظها فقط، تصير القيم مرآة ً لك، لا لافتات أمامك. وحينها، لا يعني التدين “أن تصمد أمام الحرام” فقط، بل أن ترى في الحرام عبثاً لا يُغريك، لأنه لا يملأ فراغك.
الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان استخدم مصطلح “السيولة” في وصف المجتمع المعاصر، حيث كل شيء سريع الزوال، لا يثبتُ، لا يلتزم، ولا يستقر: علاقات سائلة ، قيم سائلة، هويات سائلة
فباومان يرى أن السيولة التي صنعتها الحداثة الغربية أنتجت هشاشة، وقلقًا، وتيهًا، لأنها بلا جذور.
أما السيولة الإيمانية التي نتحدث عنها ، فهي نقيض ذلك:
ليست فوضى، بل جريا ن منظم متصل بالمطلق.
ليست هشاشة، بل مرونة قوية نابضة باليقين.
ليست عبثاً وجوديًا، بل عمقًا يجعل الإيمان حيًّا في كل موضع.
فإذا كانت سيولة باومان تنُتج الضياع، فإن السيولة الإيمانية تنُتج الثبات دون تصلب، والارتباط دون جمود، والصدق دون خوف.
هذا الجمود الإيماني رغم اعتياد الشعائر هو ما نطلق عليه ضعف الإيمان، و قد نجبر أنفسنا و غيرنا على الاستغفار و الزيادة في الطاعات و الإلحاح في الدعاء لكن رغم صدق توجهنا الظاهري لا نصل إلى المرفأ بل نتيه داخليا أكثر فأكثر، نتعب ونتوقف، و نتناسى أن النفس البشرية أكثر تعقيدات مما نظن، و أن السيولة الإيمانية تحتاج قابليه نفسية و نية متوجهه للغاية لندرك فاعليتها في حياتنا .
لذلك ارتأيت أن أتأمل تصرف الشاب – كما ورد في القصة – نفسيًا من زوايا متعددة ، لتظهر أمامي تعقيدات النفس البشرية حين لا يُصاحب التدين وعي عميق بالاحتياج الداخلي والتكوين النفسي، وكانت هذه النقاط أبرز المحاور لتفسير سلوكه:
- الاندفاع العاطفي: حاجة لم ترُو
الشاب كان في ظاهر حاله ملتزمًا: صائم، قارئ، مجاهد. لكن رؤيته للمرأة ووقوعه في حب ها بهذه السرعة يشير إلى عطش عاطفي داخلي، وربما وحدة شعورية، لم تشُبع لا بالعلاقات ولا بالإيمان الذي كان يعيش فيه.
فحين لم يجد في تدينه تلبية لهذه الحاجة الإنسانية، انجذب تلقائيًا لأول من أوهمه بالإشباع، حتى لو كان الثمن دينه.
هذا يكشف عن نمط شائع: حين لا يُعاش الدين بوصفه علاقة حب وامتلاء وجداني، قد تبحث النفس عن “دين آخر ” يُشبع فراغه، ولو كان شهوة ً أو تعلقًا بشخص.
- الخضوع للصدمة الجمالية: أثر الجاذبية
وهي استجابة فورية، ،Aesthetic Shock)ما حدث قد يُصنَّف نفسيًا أيضًا تحت ما يُعرف بـ “الصدمة الجمالية”، قوية، قد ترُبك الإدراك وتعُطل قدرة الإنسان على التفكير المنطقي، عندما يُواجه بجمال مُفاجئ يتقاطع مع حاجة نفسية سابقة.
وإن لم تكن هناك بنية إيمانية داخلية متينة أو “سيولة إيمانية”، فإن هذا الجمال يتحول من فتنة عابرة إلى منعطف وجودي، كما حدث للشاب .
- الانفصال بين التدين والذات الحقيقية
الشاب لم يقاوم. لم يمر بصراع طويل. وافق مباشرة على أن “يتنصر”، كأن القرار لم يكن يحتاج منه سوى إذ ن خارجي لكس ر الحواجز.
وهذا يشير إلى احتمال وجود فجوة نفسية بين صورة التدين التي يحملها، وبين ذاته الحقيقية التي لم تبُنَ بعد على الصدق واليقين، بل على التكرار والمظهر.
النتيجة: تدين سطحي لم يكن مرتبطًا بالهوية العميقة، بل بلباس خارجي يسقط عند أول مطر.
- الانجذاب نحو الانتماء المشروط: وهم القبول
المرأة وعدته بالانتماء والقبول مقابل “التنصر”، هذه صفقة نفسية مغرية لمن يعاني من شعور دفين بعدم الانتماء أو العزلة.
فهو لم يُغوَ بجسد فقط، بل بوعد ضمني: ستصير لي، وستكون لي هوية جديدة، إذا تخليت عن هويتك القديمة ، إنها رغبة خفية في الذوبان داخل “آخر” يُشعره بالقيمة… ولو على حساب ذاته الحقيقية.
- غياب المرونة النفسية في مواجهة الفتنة
الذين يتم سكون بالتدين الشكلي غالبًا ما تكون ردود أفعالهم أمام الفتنة حادة: إما صمود خارق ، أو انهيار كامل.
لكن من يعيش إيمانًا مرنًا حيًًّّا، مليئاً بالفهم والعمق والمجاهدة، يكون أقد ر على استيعاب الضعف، وتحويل الصراع إلى بناء داخلي لا إلى سقوط.
الشاب لم يكن مرنًا، بل انهار دفعة واحدة، مما يرجح أنه كان يعيش في قشرة التدين، لا في جوهره.
إن تصرف الشاب في القصة لا يمثله وحده بل يجُسد لحظة انهيار الإنسان حين يخُتبر في موضع لم يبنه داخليًا، يُظهر التدين، ويكبت الذات، تحضر الشعائر، وتغيب المناعة.
وهنا نفهم قوله المؤلم:
“نسيت القرآن كل ه، ما أذكر منه إلا {رُبَمَا يَوَدُّ الذَِّينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} .”
إنه لا يذكر من الوحي إلا ما يحُاكي حاله: ند م داخلي، و وعي متأخر، وحنين خافت لما كان، فحتى بعد الانسلاخ، لم تستطع روحه أن تنسى تمامًا.
فما غاب عن الذاكرة، بل بقي كجُرح في الأعماق.
لكن السؤال كيف نسي القرآن بعد أن كان حافظاً لكتاب الله؟
ضعف الإيمان سبب رئيسي في رفع القرآن من الصدور، لكن تذكره لآية واحده تصف حاله دليل على حيات قلبه ، لذلك سأكمل تأملي لحالته من الناحية النفسية التي نتجاهلها في الغالب .
فمن وجهة نظر نفسية يمكن اعتبار نسيان الشاب للقرآن – مع استثناء آية واحدة مؤلمة – صورة من صور “أثر ما بعد الصدمة، ولكن ليس بالمعنى الكلاسيكي المرتبط بالخوف أو الرعب، بل كأثر نفسي Post-Traumatic Effectالصدمة) ” داخلي ناتج عن الانهيار القيمي والوجودي، الذي أحدث شرخًا عميقًا بين “هويته السابقة” و”واقعه الجديد”.
حين يمر الإنسان بلحظة انكسار وجودي مفاجئ – كهجران القيم، أو السقوط في فعل يعارض أعمق ما كان يؤمن به – فإن النفس قد تلجأ إلى آلية دفاعية عميقة وهي:
فصل الذات الجديدة عن الذاكرة السابقة، كطريقة لحماية التوازن النفسي، أو لتجنب التنافر الداخلي بين الماضي والحاضر.
في حالة الشاب نسيانه للقرآن كله قد يكون آلية نفسية لفصل نفسه الحالية ( كافر/مرتد) عن ذاكرته النقية (المؤمن الطائع).
وكأن النفس تقول: “كي أتحمل ما أصبحت عليه، علي أن أنسى من كنت”.
لكن اللافت هو أن آية واحدة بقيت {رُبَمَا يَوَدُّ الذَِّينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِين}، وهنا تظهر مفارقة الصدمة، فالمعنى الذي بقي ليس مريحًا، بل مؤلماً، وهذا شائع في الصدمات، الذاكرة قد تُسقِط التفاصيل، لكنها تبُقي على الجُرح ، و بين أثر ما بعد الصدمة وندبة الضمير، لا ينسى الإنسان، لأنه لا يُقدر ما فقد، بل ينسى لأنه لا يحتمل تذكُّره.
والذاكرة تحتفظ أحيانًا بعبارة واحدة فقط، لأنها تحمل كل الصراع المكبوت، فالآية التي بقيت في ذهن الشاب، كانت بمثابة صدى داخلي لما يعرفه قلبه رغم الإنكار، إن النفس المنكسرة داخليًا تخُدر نفسها بالنسيان الانتقائي، وتبقي فقط على ما يُبقيها معلقة… بين ندم دفين، وذاكرة لا تموت.
قصة هذا الشاب ليست موعظة عن الهوى، بل كشف لخلل جوهري في طريقة فهمنا للدين.
نحن لا نُبتلى فقط بما “يُغوينا”، بل نُبتلى أكثر بما لم “يُبنَ فينا” جيًدًا.
و يأتي السؤال الأهم:
هل إيماننا مرن حي؟ أم متجمد في الشعائر؟
فالدين، إن لم يكن سيولة روحية تنساب في القلب والعقل، جف عند أول منعطف…
وما جف، تكسر!